بين الطموح والواقع القانوني
"عندما يعلو صوت الطموح الإنساني على الواقع
القانوني والاختصاص القضائي"
د. محمد عدنان علي الزبر
دكتوراه قانون جنائي دُولي
دكتوراه قانون جنائي دُولي
إنتشر في الآونة الاخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي
دعوات وبشائر ان هناك تحرك حقوقي لتحريك الشكاوى الجزائية ضد مرتكبي الجرائم بحق
المتظاهرين العراقيين أمام المحكمة الجنائية الدولية، بل هناك من نادى الى تظاهرات
مستمرة امام المحكمة المذكورة في لاهاي لتحركها بواسطة المدعي العام للمحكمة للنظر
في الجرائم المرتكبة وتفاعل كثيرون بهذا الشأن مما تطلب كتابة هذا المقال لتوضيح
الفكرة للقارئ الكريم وللمعنيين لاسيما غير المختصين في القانون لرسم صورة مبسطة
وتوضيحية عن دور المحكمة الدولية للنظر في الجرائم الدولية حتى لا يصطدموا بالواقع
القانوني للمحكمة وعدم تحقق طموحاتهم وامالهم، وفي الوقت ذاته تقديم مقترح من قبل
كاتب هذه السطور عله يجد اذانا صاغية وللتبسيط ندرجها على شكل نقاط وذلك تباعا:
1-
كما يعلم القارئ
الكريم أو لعلمه ان الجرائم الدولية التي نص عليها النظام الاساسي للمحكمة
الجنائية الدولية في لاهاي هي أربعة جرائم، تتمثل بجرائم الحرب والجرائم ضد
الانسانية وجرائم الابادة الجماعية وجريمة العدوان، والجرائم الثلاث الاولى أكثر
تنظيما وتجريما من الاخيرة (العدوان) لأسباب قانونية وسياسية وفنية لا يسمح المقام
لذكرها.
2-
ان الجرائم
المذكورة وغيرها من الجرائم نشأت نتيجة الممارسة الدولية مع الشعور بإلزامية تلك
الممارسة أي بموجب العرف الدولي وان وثقها المجتمع الدولي وصاغ معظم احكامها باتفاقيات
دولية يبقى العرف سيد الموقف وصاحب الفضل في تنظيم تلك الجرائم وتطويرها وتوسع
نطاقها التجريمي والعقابي والفضل جل الفضل يعود الى المحاكم الدولية والمُدولة
التي ساهم فيها قُضاتها المشهود لهم بالكفاءة القانونية الكبيرة الذين ساهموا في
ايجاد وتطوير القواعد القانونية التي تجرم افعال ترتقي الى وصف الجرائم الدولية
وتحديد العقوبة المناسبة لها، من خلال الاستعانة بنظام المحكمة التي تشكلت بموجبه
والممارسات والاتفاقيات الدولية، والقضاة عندما يحددون القاعدة القانونية لاسيما
العرفية يكون ذلك بمقتضى الحاجة لإيجادها لتنطبق على الواقعة المنظور فيها من قبل
المحكمة الدولية أو المُدولة.
3-
ان جرائم المرتكبة
بحق المتظاهرين هي جريمة قد ترتقي الى "جرائم ضد الانسانية"
اذا ما تحققت اركانها وشروطها، وليس جرائم حرب كما يُشاع في وسائل التواصل
الاجتماعي لان الاخيرة لا تحصل إلا في حال وجود نزاع مسلح (حرب) ولسنا الان ولله
الحمد أمام أي نزاع مسلح، كما ان ما حصل للمتظاهرين ليست جريمة ابادة جماعية
لان الاخيرة تحصل عندما يتم استهداف فئة اجتماعية معينة لأسباب طائفية أو قومية أو
دينية وهذا لم يحصل في العراق فالضحايا لم يتم استهدافهم للأسباب المذكورة وانما
لفئات مختلفة، حتى وان كان المجنى عليهم أو أغلبهم من طائفة معينة فذلك لا يعني
انها جريمة ابادة لانتفاء القصد الجرمي الخاص والذي يُقصد به توفر النية لإبادة
طائفة معينة وهو غير موجود في هذه الجرائم، إلا اللهم إذا كان المقصود بالابادة الجماعية هنا كصورة من صور الجرائم التي تدخل ضمن الجرائم ضد الإنسانية فذلك موضوع ثاني يمكن القبول بصحته لان الابادة الجماعية كصورة من صور الجرائم ضد الانسانية تختلف عن جريمة الابادة الجماعية كوصف قانوني مستقل.
4-
العراق ليس طرفا
في النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية والذي يُعرف بنظام روما الاساسي (نسبة
الى مكان صياغة الاتفاقية المنشئة للمحكمة المذكورة)، وبالتالي لا يمكن النظر في
الجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين (كجريمة ضد الانسانية) إذا ما تحققت أركانها
إلا في حالتين اثنين لا ثالث لهما:
·
الحالة الاولى: يكون من خلال قرار
صادر عن مجلس الامن بموجب البند السابع من ميثاق الامم المتحدة كما حصل للسودان في
قضية دارفور بالنسبة للبشير، وهو الافضل من الحالة الثانية التي سنذكرها، لأنه في
حال حصول ذلك فان ولاية المحكمة ستشمل كل المتورطين بارتكاب تلك الجريمة بغض النظر
عن مركزه السياسي أو جنسيته (وأقصد بالجنسية الثانية للمتهم العراقي)، كما ان
النظر في جرائم تشرين من قبل المحكمة بقرار من مجلس الامن سيلزم الدول كافة
بالتعاون مع قرارات المحكمة الاطراف وغير الاطراف في المساعدة القضائية والتسليم
وتنفيذ الاحكام الصادرة عنها وبالتالي بفاعلية تحقيق العدالة الجنائية بحق مرتكبي
جرائم تشرين.
·
الحالة الثانية وهو وان كانت
ممكنة لكنها أقل فاعلية من الاولى كما ذكرنا وهو أن تنظر المحكمة المذكورة في
الجرائم المرتكبة من خلال اختصاصها الشخصي، ويقتصر هذا الامر على العراقيين المتهمين
عن ارتكاب جرائم تشرين من الذين يحملون جنسية دولة طرف في المحكمة الجنائية
الدولية كفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الاطراف، والمحكمة بتصور كاتب هذه
السطور غير مستعدة أو غير راغبة لذلك، بقرينة انه سبق وان تحرك المجتمع الدولي غير
الحكومي والمنظمات الانسانية للنظر في جرائم داعش طبقا لهذا الاختصاص ورغم ابداء
المدعي العام للمحكمة موافقته الضمنية لذلك ولكن المحكمة لم تباشر في التحقيق لان
الاختصاص الاخير (الشخصي) سيؤدي الى تجزء تحقيق العدالة الجنائية بمعنى شمول بعض
المتهمين ممن يحملون جنسية الدول الاطراف وعدم شمول غيرهم ممن لا يحملون تلك
الجنسية، كما ان الدول لاسيما غير الاطراف كإيران وسوريا والعراق في هذه
الحالة غير ملزمة بالتعاون مع المحكمة وغير ملزمة بتنفيذ اوامرها وقراراتها لغياب
القوة القانونية الملزمة كما هو الحال لو كان بقرار من مجلس الامن استنادا للبند
السابع!.
5-
لو افترضنا جدلا
قيام المحكمة الجنائية الدولية النظر بجرائم تشرين بغض النظر عن الية الاحالة
اليها بقرار من مجلس الامن او الادعاء العام، فان هناك اسباب اقتصادية تتعلق بموارد
المحكمة، وفنية تتعلق ببعد المحكمة (لاهاي_ هولندا) عن واقعة الجريمة (العراق)،
واللغة الرسمية للقضاة والمحكمة (الانكليزية أو الفرنسية) وعوامل اخرى موضوعية
وفنية وعملية لا تساعد بتحقيق العدالة كما لو كانت في دولة ارتكاب الجريمة.
وبذلك يرى
كاتب هذه السطور ان افضل وسيلة لمقاضاة المتهمين بجرائم تشرين أحد الامرين:
الاول: ان تُنظر من قبل
قضاء وطني مستقل ونزيه وبواسطة قُضاة يتحلون بالشجاعة والنزاهة.
الثاني: أن تنظر من قبل
قضاء مختلط أو مُدول على أن يكون مقرها في بغداد، ونقصد بالمحكمة المختلطة ان
تتشكل المحكمة من قضاة وطنيون (عراقيون) واخرون (أجانب) يتمتعون بخبرة قانونية
كبيرة لاسيما بأحكام القانون الدولي ويكون ذلك بقرار من مجلس الامن او وفقا
لإجراءات يفرضها الواقع الدولي والوطني، ويُفضل أن يتم تشكيل المحكمة بقرار من
مجلس الامن بمقترح من قبل اليونامي أو الامين العام للأمم المتحدة، لتتمتع المحكمة
المشكلة بإلزامية قانونية دُولية ويتم تحديد اختصاصها الموضوعي من قبله لتعنى
المحكمة بالنظر في الجرائم المذكورة وغيرها من الجرائم التي ينيط اليها مجلس الامن،
وبلا شك في حال تشكل المحكمة المذكورة ستساهم في رصانة القضاء الوطني وتعزز
الادبيات القانونية بتجربة قانونية مهمة وقد تكون فريدة نظرا لتعقد الوقائع
المرتكبة (الجرائم) في العراق وتداخل الكثير منها، والنظر في تلك الجرائم من قبل
قضاة وطنيون ودوليون سيضيف نقلة نوعية وموضوعية لتجربة العدالة الجنائية الدولية
من جانب والتجربة القضائية في العراق من جانب أخر.
فما بال القارئ
الكريم إذا أُدخل ضمن اختصاص المحكمة المتأمل تشكيلها النظر في جرائم الفساد لكبار
المسؤولين منذ 2003 وحتى يومنا هذا، أو النظر في الجرائم المرتكبة بحق الشعب
العراقي التي قد ترتقي لجرائم دولية منذ 2003 وحتى هذا اليوم؟! بلا شك سيتغير مجرى
نطاق العدالة الجنائية الدولية نوعا وموضوعا ويساهم بالمستقبل القريب نحو ترصين
العدالة المنشودة وتلفت نظر الادبيات القانونية نحو موضوع لطالما غاب عن اذهانهم ألا
وهو ادخال موضوع الفساد نحو نطاق الجرائم الدولية أو الدعوة لإدخاله وهو ما يتأمله
كاتب هذه السطور!، ولكن يبقى جميع ما تقدم وغيره رهنا بالظروف والارادة السياسية لأصحاب
القرار الدولي وضمائر البشرية جمعاء وما ينتج عنهم من ضغط واردة انسانية.
والمقطع الفيدوي أنموذجا للجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين العزل.
والمقطع الفيدوي أنموذجا للجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين العزل.
جرائم تشرين والمحكمة الجنائية الدولية
Comments
Post a Comment
يرجى مشاركة ارائكم ومقترحاتكم