Skip to main content

المسؤولية الجنائية لجريمة التعذيب في القانون العراقي


محاضرة علمية بعنوان**:
المسؤولية الجنائية لجريمة التعذيب في القانون العراقي


د. محمد عدنان علي الزبر*
تنص المادة 333 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على : (يُعاقب بالسجن أو الحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات بشأنها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأي معين بشأنها. ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة أو التهديد.)، ولإعطاء صورة واضحة عن جريمة التعذيب ينبغي علينا أولا ان نقوم بتعريف التعذيب وذلك في المطلب الأول وتحديد صوره في المطلب الثاني، واركانه في المطلب الثالث، وذلك تباعا:


المطلب الأول: تعريف جريمة التعذيب: 

عُرف التعذيب وفقا لاتفاقية  مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة عام 1984 بأنه : (أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أم عقلياً يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص أو شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو ارغامه هو أو أي شخص ثالث عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص أخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها): (المادة1 من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، لسنة 1984).

وعرفه المشرع العراقي في قانون المحكمة الجنائية العليا عام 2005 بأنه: (التــعمد في التسبب بالألم الشديد والمعاناة سواء كان ذلك بدنــياً أو فـكرياً علـى شخص قيد الاحتجاز أو تحت سيطرة المتهم على ان التعذيب لا يشمل الألم أو المعاناة الناجمة عن العقوبات القانونية أو ذات العلاقة بها):(المادة 37 من قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم10 لسنة2005، المنشور في الوقائع العراقية بالعدد4006 في 18/10/2005).

المطلب الثاني: صور جريمة التعذيب: 

ويقصد بها الأفعال المادية أو المعنوية التــي اعتـــــاد رجال السلطة اتباعها والتي تنطوي على إيلام جسدي أو نفسي للخاضع لها والتي لا يعتمد القائم  بها على تقنية متطورة أو وسيلة حديثة، فعلى الرغم من صعوبة حصر وسائل التعذيب التقليدية إلا أَنها غالباً ما تكون اما بصورة مساس بجسد الضحية، أو يكون التعذيب موجه بشكل مباشر نحو جوهر الانسان على هيئة تهديد بضرر بدافع التأثير على الارادة وجعلها تتجه في طريق معين على غير رغبة الشخص، والتي لا تقل خطورة وقوة عن التعذيب المادي أو الجسدي بل وفي بعض الاحيان تفوقها خطورة لان آثار التعذيب الجسدي يمكن ان تزول بمرور الوقت أما آثار التعذيب النفسي فتبقى ملازمة للضحية تعاني من تبعاتها لفترات طويلة جدا، ومن صور التعذيب الشائعة هي:

أولا: الضرب: وهي الطريقة الاكثر شيوعاً والتي يمكن ان تكون باللكم والرفس على انحاء مختلفة من جسم المجنى عليه او قد تكون بالجلد بواسطة الاسلاك الكهربائية او بواسطة العصا المطاطية.

ثانياً: التعذيب بالخنق:  وهذه الطريقة من التعذيب يتم تقييد المجنى عليه وما يتبعها من إدخال كمية كثيرة من الماء في فم الضحية وقد يكون الماء ساخناً أو وسخاً، أو بطريقة غطس الضحية في خزان كبير للماء الى ان يصل الى حد الاختناق   مما يولد هلعاً قاتلاً لدى الضحية.

ثالثاً: التعذيب بالكهرباء: إِنّ هذا الأسلوب المرعب في التنكيل يحدث ألماً فضيعاً في الجسد بحيث يوضع الضحية على سرير معدني أو ما شابهه بعد ان يقيد ثم يتم وضع ملاقط الكهرباء على مناطق حساسة من جسمه ثم يمرر عليه تيار الكهرباء لفترات متفاوتة قد تطول لساعات، وهذه الطريقة يفضلها القائمون  بالتعذيب عادة كونها لا تترك آثاراً مقارنة بالأساليب الاخرى.

رابعاً: التعذيب بالحرق: وهي الطريقة التي يمكن اعتبارها من اقدم الطرق والتي تتم بواسطة القضبان الحديدية بعد تسخينها الى درجة الاحمرار ومن ثم وضعها على جسم الضحية، وقد تكون عــن طريق صــب الزيت المغلــي على جــسد الضحية أو الكي بالنار.

خامساً: الإضعاف والإنهاك: إذا كانت أشكال التعذيب السابقة تعتمد على القسوة والعنف المسلط على جسد الضحية، فإنّ التعذيب بالإضعاف والإنهاك والعزلة يعتمد على المناورة بالألم لنقل الضحية الى حالة الانهيار، ويمكن القول بان هذه الطريقة تعد من صور التعذيب السلبية كون الضحية يحرم فيها من الاكل والنوم لعدة ايام.

سادساً: هتك العرض: وهي من أَخطر انواع التعذيب وأبشعها وتتمثل بالاعتداء الجنسي على المجنى عليه، الذي يكون غرضه الإفناء النفسي الكامل للضحية الذي تبدو له كلفة المقاومة أكثر إِهانة لكرامته من الاستسلام، وهذه الطريقة مارستها قوات الاحتلال الامريكي في سجن ابي غريب للفترة ما بين تشرين الاول وكانون الاول عام 2003 إذْ قام بها جنود في الفرقة ال 372 ومجموعة من الشرطة العسكرية وأعضاء في مجموعة الاستخبارات الاميركية، فقد مارس الجنود الأمريكان مجموعة من طرق التعذيب التي فيها هتك لعرض المعتقلين وقد جاء ذلك في ضوء قراءة ادارة الاحتلال للتقاليد العربية والاسلامية التي ترفض الإباحية والتعري وتعتبرها منافية للخلق والدين، وبالتالي استخدمت قوات الاحتلال والمخابرات الامريكية هذا الأسلوب السادي و اللا إنساني في التعذيب كوسيلة لانتزاع الاعتراف وكسر ارادة المعتقلين.

سابعاً: قلع الأظافر: يتم هذا الأسلوب اثناء التحقيق مع المتهم  والذي يُعد من اكثر الاساليب شهرة، ونجد وقعه واضحاً في سوح القضاء فقد قضت محكمة التمييز الاتحادية بنقض قرار الإدانة الصادر بحق المتهم (س ع ع ح) من قبل المحكمة الجنائية المركزية في بغداد الكرخ الهيئة الثالثة القاضي بإعدام المتهم شنقاً حتى الموت وفق احكام المادة الرابعة /1 بدلالة المادتين 2و3 من قانون مكافحة الارهاب رقم 13 لسنة 2005 مسببة ذلك: (على المحكمة أن تحيل المتهم الى لجنة طبية لفحصه بغية التحقق من صحة ادعاءه بأنه اعترف نتيجة تعذيبه بعد " قلع اظافر رجليه بواسطة البلايس").

ثامناً: التعذيب بالتهديد: وهذا الأسلوب يمكن اعتباره صورة من صور الاكراه المعنوي، والذي يجعل الضحية في إرباك نفسي مما يؤثر في حريته فيجعله تحت وطأة الخوف من حدوث أَمر معين، وصورته ايهام الضحية بممارسة الإعدام الوهمي عن طريق اعدام اشخاص اخرين بإطلاق عيارات نارية أو اطلاق حيوانات لمهاجمة الضحية مثل الكلاب أو القطط أو العقارب أو الثعابين.

تاسعاً: الاحتفاظ بالضحية في التوقيف لفترات طويلة دون محاكمته وبدون مُسَوّغ مشروع: والمتمثل بإبقاء الضحية في الحجز لفترات طويلة دون محاكمة وبدون مُسَوّغ مما يجعله في حالة ترقب وقلق دائم ينعكس سلباً على حالته النفسية.


المطلب الثالث: أركان جريمة التعذيب: 

تشترك جريمة التعذيب مع بقية الجرائم الاخرى في كونها مكونة من الركنين المادي والمعنوي، وتنفرد عن بقية الجرائم في أركانها الخاصة وهو ما سيتضح من خلال شرح كل منهما وذلك في ثلاث فروع، نتناول في الأول الركن المادي لجريمة التعذيب، ونخصص الثاني للركن المعنوي، ليكون الثالث محلا لدراسة الاركان الخاصة لجريمة التعذيب.


الفرع الأول: الركن المادي لجريمة التعذيب: 

يقصد بالركن المادي للجريمة السلوك الإجرامي الذي يؤدي الى حدوث نتيجة يعاقب عليها القانون، فهو يمثل الوجه الظاهر للجريمة، وبه يتحقق اعتداء الفاعل على المصلحة المحمية قانوناً، فقد يكون أما فعل جرمه القانون، أو امتناع عن فعل أمر به القانون، وتكمن أهميته في ان القانون لا يعرف جرائم بدون ركن مادي، والركن المادي بدوره يتكون من عناصره الثلاث: السلوك الاجرامي، والنتيجة الجرمية، والعلاقة السببية:

أولا: السلوك الإجرامي (الفعل): ويراد به النشاط الخارجي المكون للجريمة والمتمثل بالسلوك المادي الإرادي الذي يقوم به موظف أو مكلف بخدمة عامه اعتماداً على وظيفته للاعتداء على المجنى عليه مسبباً له ايذاءاً بدنياً أو معنوياً، وبالتالي فلا جريمة من دونه، لان القانون لا يعاقب على مجرد النوايا والرغبات والشهوات، وإذا ما رجعنا الى نص المادة (333) عقوبات، نجد بأن السلوك الإجرامي في جريمة التعذيب له صورتان الاولى هي ممارسة التعذيب بالفعل، والثانية هي الامر بالتعذيب، وهذا ما نأتي على بحثه الآن:

1-              ممارسة التعذيب: وهو الاعتداء المادي أو المعنوي الذي يقع من الموظف أو المكلف بخدمة عامة على متهم لحمله على الاعتراف أو الإدلاء بأقوال أو معلومات بشأن جريمة، والمشرع عندما جرم التعذيب هدف الى حماية أحاد الناس من سطوة السلطة المتمثلة بالعنف الوظيفي، والذي لا يقصد تحققه بأساليب مادية دون المعنوية، كذلك الى حماية حق الإنسان في سلامة جسمه وعقله، والتي يمكن هدرها في كلا الحالتين.

2-              الامر بالتعذيب: تتحقق هذه الصورة من صور السلوك الإجرامي لجريمة التعذيب متى أصدر الجاني أوامره الى شخص أخر أو عدة أشخاص بتعذيب متهم لحمله على الاعتراف بارتكاب جريمة معينة، فقد عرف الأمر بالتعذيب بأنه: (كل تعبير يتضمن أداء عمل أو الامتناع عن عمل أو تحذير للتحوط من وقوع حدث، يصدر من رئيس يختص بإصداره الى مرؤوس يختص بتنفيذه تربطهما علاقة وظيفية عامة): (حكمت موسى سلمان: "طاعة الأوامر وأثرها في المسؤولية الجزائية"، ط1، بغداد،1970، ص26).

ومن خلال استقراء المادة 333 من قانون العقوبات العراقي نجد ان الآمر بالتعذيب فاعل اصلي في الجريمة وليس شريكاً فيها، وعليه فالمادة المذكورة أعلاه قد تضمنت فقط الامر بصورته الايجابية والذي قد يكون أمراً بصريح العبارة، أو بالإيماء، أو بالإشارة، أو بأية وسيلة أخرى متفق عليها، أما الامر بصورته السلبية والذي يمكن تصوره عندما يقوم المرؤوس بتعذيب المتهم، ويفعل ذلك بعلم الرئيس ولكنه يتغاضى عن ذلك ويسكت ولا يصدر أي أمر بكفه عن التعذيب مما يمكن اعتبار ذلك مأخذاً على نص المادة المذكورة أعلاه والذي يمكن ان يضيق من نطاق المسؤولية الجزائية عن فعل التعذيب ويتعارض مع المفهوم الواسع للتعذيب، الذي تتسع المسؤولية الجنائية فيه لتمثل كل من يوافق أو يسكت عن فعل التعذيب ومن التطبيقات القضائية لذلك فقد جاء في قرار لمحكمة التمييز: (...ان الرئيس المباشر للمتهم كان قد شاهد تعذيب المتهم للمجنى عليه وسمع صراخه إلا انه تغاضى عن ذلك فيكون المسؤول عن الجريمة، المتهم الذي مارس التعذيب فعلاً  دون سواه...): (قرار محكمة التمييز بالعدد: 194/هيئة جزائية/1998، في 18/1/1998، نقلا عن عمار تركي عطية: "الحماية الجنائية للحرية الشخصية في مواجهة السلطة العامة"، أطروحة دكتوراه، مقدمة الى كلية القانون/ جامعة البصرة،2004، ص96).

ثانيا: النتيجة الجرمية لجريمة التعذيب: النتيجة الجرمية في جريمة التعذيب فنجد لها مدلولين أحدها مادي والمتمثل بالتغير الناتج عن السلوك الإجرامي والمتمثل باعتراف المجنى عليه (المتهم) بجريمة لم يقم اصلاً بارتكابها وادلائه بأقوال غير صحيحة كنتيجة للضغط المادي أو المعنوي الذي قام به الجاني أما  المدلول الأخر وهو يمكن عده مدلولاً قانونيا هو العدوان الذي ينال مصلحة أو حقاً يحميه القانون وهي بذلك تعد عنصر من عناصر الركن المادي في الجريمة.

ثالثا: الرابطة السببية: رابطة السببية هي العنصر الثالث من عناصر الركن المادي للجريمة وتعني هذه الرابطة ان السلوك الإجرامي للجاني هو الذي تسبب في حدوث النتيجة الإجرامية وتوافر رابطة السببية شرط لازم لمساءلة الجاني عن جريمته تلك، ذلك انه لكي يسأل الشخص جنائياً عن جريمته، فلابد ان يكون سلوكه الإجرامي الناشئ عن عمله أو امتناعه هو الذي أدى الى حدوث النتيجة الإجرامية المعاقب عليها، أي لابد وان يرتبط السلوك الإجرامي بالنتيجة الإجرامية ارتباط السبب بالمسبب والعلة بالمعلول.

وبناءاً عليه فان الرابطة السببية في جريمة التعذيب تكون متوافرة متى كان السلوك الإجرامي للجاني (الأمر بالتعذيب أو ممارسة التعذيب بالفعل) هو الذي تسبب في حصول النتيجة الإجرامية والمتمثلة في المساس بسلامة جسد المجنى عليه ولكن قد يقع السلوك الإجرامي وتتحقق النتيجة الضارة.
الفرع الثاني: الركن المعنوي لجريمة التعذيب: يمكن القول بأن الركن المعنوي هو عبارة عن علاقة تربط بين ماديات الجريمة وشخصية الجاني، الذي اقترفها، إذْ ان جوهر هذه العلاقة هو الارادة فقد يرتكب فعل التعذيب شخص تتوافر فيه صفة الجاني على شخص تتوافر فيه صفة المجنى عليه ورغم وجود علاقة السببية بين فعله والنتيجة الجرمية إلا ان الجريمة لا تتحقق، وذلك لان الجريمة ليست مجرد كيان مادي يتشكل من الفعل وما قد يترتب عليه من آثار، وانما هي كيان شخصي ايضاً: (د. فخري عبد الرزاق الحديثي: "شرح قانون العقوبات: القسم العام"، مطبعة الزمان، بغداد، 1992، ص273).

وجريمة التعذيب تتحقق إذا ما  وقع التعذيب من قبل موظف أو مكلف بخدمة عامة على شخص كلف بالحضور أمام القضاء أو السلطة التحقيقية ليدلي بمعلومات حول واقعة معينة وذلك لحمله على الإدلاء بمعلومات معينة أو كتمانها. 

الفرع الثاني: الركن المعنوي:


لذلك لابد من توافر الركن المعنوي كون جريمة التعذيب هي من الجرائم العمدية وان القصد الجرمي هو صورة الركن المعنوي فيها، وإذا ما رجعنا الى نص المادة 333 من قانون العقوبات العراقي والتي جاء فيها: (... لحمله على الاعتراف بجريمة أو الإدلاء بأقوال أو معلومات بشأنها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأي معين بشأنها)، نجد بأنه لا يكفي اتجاه ارادة الموظف أو المكلف بخدمة عامة الى ايذاء المتهم أو الشاهد أو الخبير ايذاء يصدق عليه وصف التعذيب فحسب، بل يجب ان تتجه إرادته فضلاً عن ايذاء المجنى عليه الى حمله على الاعتراف أو الإدلاء بأقوال أو معلومات أو لكتمانها أو لإعطاء رأي بحسب الأحوال، أي يجب ان يكون لدى الجاني غرض معين أو قصد خاص هو حمل المجنى عليه على الاعتراف، وهو ما يتضح من خلال التعرف على القصد الجنائي العام والخاص للركن المعنوي لجريمة التعذيب:

أولا: القصد الجنائي العام في جريمة التعذيب: القصد الجنائي العام في جريمة تعذيب متهم لحمله على الاعتراف يقوم بانصراف ارادة الجاني، الى المساس بسلامة جسد المجنى عليه (المتهم) كأثر للسلوك الإجرامي (الامر بالتعذيب او ممارسة التعذيب بالفعل) مع علمه بذلك، وعليه فأن القصد الجنائي هنا يقوم على عنصرين هما:

1-    العلم: لكي يتوافر القصد الجنائي العام يجب ان يكون الجاني محاطاً علماً بحقيقة الواقعة الإجرامية من حيث الواقع، ومن حيث القانون وبدون هذا العلم لا يمكن تصور وجود الارادة الإجرامية، إذ تقوم هذه الارادة على أساس العلم بالواقعة الإجرامية والعلم بالقانون، وعلى ذلك يتعين ان يكون الجاني في جريمة تعذيب متهم لحمله على الاعتراف عالما بماديات الواقعة الإجرامية في جريمة التعذيب، أي يجب ان يعلم بأنه يقترف فعلاً أو امتناعاً من شأنه ان يشكل السلوك الإجرامي في جريمة التعذيب.
 ومن ناحية أخرى يجب ان يعلم الجاني ان من شأن هذا الفعل أو الامتناع ان يؤدي الى المساس       
بسلامة جسد المجنى عليه سواء كان هذا المساس مادياً أو معنوياً.
ومن ناحية ثالثة يجب ان ينصرف علم الجاني ايضاً الى الشروط (المفترضة) أي يجب ان يكون الجاني عالماً بأنه متمتعاً بصفة الموظف العام، وان المجنى عليه متمتعاً بصفة المتهم، أي يتعين لتوافر عنصر العلم في جريمة التعذيب ان يكون الجاني عالماً بكل ماديات هذه الجريمة، أي لابد ان يكون عالماً بأنه يوجه فعله الى جسم إنسان حي وكذلك علمه بخطورة فعله على حق المجنى عليه في سلامة جسمه وكذلك ان يكون متوقعاً إلحاق الأذى به، وكما يجب ان ينصرف علمه الى صفة المجنى عليه، ذلك ان هذه الصفة تعد ركناً خاصاً في هذه الجريمة.
2- الارادة: لا يكفي لقيام القصد الجنائي العام ان يكون الجاني عالماً بماديات الجريمة وعناصرها، بل يلزم فضلاً عن ذلك ان تتجه ارادة الجاني نحو ارتكاب السلوك الإجرامي المعاقب عليه وفق المادة 333 من قانون العقوبات، وعلى ذلك لابد من ان تنصرف ارادة الموظف أو المكلف بخدمة عامة الى المساس بسلامة جسد المجنى عليه (المتهم) كأثر لاتجاه إرادته الى ارتكاب الامر بالتعذيب أو ممارسة التعذيب على المتهم بالفعل، وبناء عليه فإذا انعدمت إرادة الجاني في إحداث السلوك الإجرامي و نتيجته، فلا يقوم القصد الجنائي للجريمة أي الركن المعنوي، ومن ثم لا تقوم المسؤولية الجنائية.

ثانيا: القصد الجنائي الخاص في جريمة التعذيب: ان المشرع الجنائي في بعض الأحيان وخلافاً للأصل قد لا يكتفي بتوافر العنصرين السابقين للقصد الجنائي وانما يتطلب ان يكون مرتكبها قد اتاها مدفوعاً بباعث خاص أو نية تحقيق غاية أو غرض معين، وبذلك يدخل هذا الغرض أو الباعث كعنصر في تكوين القصد وهنا يطلق عليه بالقصد الجنائي الخاص.

ونجد بان المشرع العراقي بموجب المادة (333) من قانون العقوبات لم يكتف بالقصد العام وانما اشترط ان يكون مرتكبها قد اتاها مدفوعاً بباعث خاص أو نية تحقيق غرض معين، وبذلك يدخل هذا الغرض كعنصر في تكوين القصد الخاص، فمتى ما اتجهت نية الموظف أو المكلف بخدمة عامة والصادر عنه فعل التعذيب، فضلاً عن إيقاع الإيذاء الى الوصول بالإيذاء الى نتيجة معينة، وهي حمل المتهم الى الاعتراف بالجريمة، تحققت جريمته، ولكن لا يلزم لتطبيق أحكام المادة (333) ان يكون القائم بالتعذيب، قد تحصل على مراده بل العبرة بالقصد الجرمي وبنية المعذب، وعلى هذا الأساس فأن الجريمة لا تقوم إذا لم يكن القصد من تعذيب المتهم حمله على الاعتراف كما لوكان القصد منه التشفي من المتهم لشكواه معذبه الى قاضي التحقيق، فتعدي رجل الشرطة على المجنى عليه بدافع الانتقام لا يصلح لتوافر هذه الجريمة فمتى خلا ذهن رجل الشرطة من استهداف استخلاص الاعتراف أو انتزاعه من المتهم، وان كان يصلح لتوافر جريمة استعمال القسوة أو غيرها من الجرائم وذلك لتخلف القصد الخاص المطلوب توافره في جريمة التعذيب، وكذلك الحال إذا كان ايذاء المجنى عليه من قبل الجاني بدافع التسلية أيضاً هنا لا تتحقق جريمة التعذيب وفق أحكام المادة 333 من قانون العقوبات وذلك لانتفاء القصد الجرمي الخاص بانتزاع اعتراف أو معلومات من المجنى عليه، فهنا قد نكون أمام جريمة أخرى كجريمة استعمال القسوة وفق المادة 332 من قانون العقوبات أو جريمة الإيذاء أو الضرب أو الجرح وفق المواد 412 أو413 من قانون العقوبات. علما بأنه لا يشترط ان يكون الجاني مختصاً بالتحقيق بشان الواقعة التي تحوم الشبهة حول المتهم بارتكابها أو اشتراكه فيها وانما يكفي ان يكون للموظف أو المكلف بخدمة عامة سلطة بموجب وظيفته تسمح له بتعذيب المتهم بقصد حمله على الاعتراف.

الفرع الثالث: الاركان الخاصة بجريمة التعذيب: 

ان جميع الجرائم تشترك بالأركان العامة، إلا ان لكل جريمة على حدة أركان خاصة تميزها عن غيرها، وهذه الأركان لابد من وجودها لكي تقوم الجريمة وفقاً للنموذج القانوني المنصوص عليه، فلولا توافر هذا الركن أو العنصر كما يطلق عليه البعض، لما أمكن القول بوجود الجريمة وان كانت تنضوي تحت وصف قانوني أخر، وجريمة التعذيب من الجرائم التي اشترط لقيامها وجود مثل هذه الأركان والمتمثلة بصفة الجاني، وصفة المجنى عليه أو كلاهما.
ونجد اغلب التشريعات الجنائية تكاد تكون متفقة على صفة الموظف أو المكلف بخدمة عامة بالنسبة للجاني، وهذا ما نصت عليه المادة (333) من قانون العقوبات العراقي بقولها: (كل موظف او مكلف بخدمه عامه عذب أو أمر بتعذيب ...)، أما بالنسبة لصفة المجنى عليه فنجد ان التشريعات قد اختلفت في تحديد هذه الصفة بين قصرها على صفة المتهم كما هي الحال في القانون المصري والليبي والتونسي، وبين من توسع فيها وذلك بإضافة الشاهد والخبير ليكونا محلاً للحماية القانونية المقررة في هذا النص كما جاء في تشريعنا العراقي.




** محاضرة علمية أُلقيت على طلبة جامعة دجلة_ كلية القانون المرحلة الثالثة ضمن محاضرات شرح قانون العقوبات القسم الخاص حيث أُدخلت هذه المفردة ضمن بقية الجرائم محل الدراسة.

Comments

  1. اذا كانت هناك معلومات اضافية يريد القارئ الكريم اضافتها او تعديلها فذلك يسعد الباحث لتعم الفائدة على الجميع.

    ReplyDelete

Post a Comment

يرجى مشاركة ارائكم ومقترحاتكم

Popular posts from this blog

القدم الوظيفي المترتب عن الشكر والتقدير

                                        هل يترتب على الشكر والتقدير الصادر عن السيد رئيس مجلس الوزراء قدم لستة اشهر؟!   م.د. محمد عدنان علي تدريسي ومدير قسم الشؤون الادارية والمالية في جامعة جابر بن حيان للعلوم الطبية والصيدلانية                       لمقتضيات الوقوف على سياق اداري وقانوني سليم وحماية للمراكز القانونية للموظفين في احتساب مدد القدم نتيجة الشكر والتقدير الممنوح من قبل السيد رئيس مجلس الوزراء والسيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي والسيد رئيس الجامعة نسطر ملاحظاتنا القانونية التالية: أولا: جاء في كتاب امانة مجلس الوزراء ذي العدد ق/ 2/ 5/ 27 / 07647 في 11/ 3/ 2020 ، إجابة عن عدد من التساؤلات: (ان الشكر الموجه من قبل السيد رئيس الوزراء يرتب قدما لمدة ستة اشهر)، وهو رأي قانوني غير سليم لم يتوفر فيه سندا   قانونيا   سوى قرار مجلس قيادة المنحل رقم 155 لسنة 2000 والذي جاء نصه : ( يرتب الشكر والتقدير الموجه من رئيس الجمهورية الى أي منتسب في الدولة قدما لمدة ستة اشهر لأغراض الترقية والترفيع والعلاوة وتغيير العنوان الوظيفي ولمدة سنة واحدة للأغراض نفسها في حال تكراره .

تعريف القاعدة القانونية وخصائصها.. عناصرها.. مصادرها

    د. محمد عدنان علي القاعدة القانونية قاعدة سلوك اجتماعية تنظم العلاقة ما بين الأشخاص  ملزمة ومقترنة بجزاء تفرض على من يخالفها من قبل السلطة العامة. القاعدة القانونية   خصائص القاعدة القانونية عناصر القاعدة القانونية مصادر القاعدة القانونية     خصائص القاعدة القانونية   ·                     القاعدة القانونية قاعدة سلوك اجتماعية. ·                     القاعدة القانونية عامة مجردة. ·                     القاعدة القانونية تنظم العلاقة ما بين روابط المجتمع. ·                     القاعدة القانونية ملزمة ومقترنة بجزاء تفرض على من يخالفها.   عناصر القاعدة القانونية : ·                      الفرض. ·                      الحكم.             مصادر القاعدة القانونية ·                      المصادر الرسمية أو الشكلية للقانون العراقي. ‌أ-                     التشريع. ‌ب-                 العرف. ‌ج-                   مبادئ الشريعة الاسلامية. ‌

عدد من أسئلة مادة المدخل لدراسة القانون المعنية بموضوع التشريع

(التشريع كمصدر من مصادر القانون)   د. محمد عدنان علي الزبر ملاحظات: ·        هذه الاسئلة تتعلق فقط بموضوع التشريع كمصدر من مصادر القانون. ·        هذه الاسئلة الغاية منها تسهيل الدراسة على الطالب فحسب ولا يُشترط ان يكون نمط الاسئلة الفصلية بذات الطريقة. ·        ينبغي قراءة الاجابة على تلك الاسئلة بتركيز لان فيها احكام قانونية مهمة. س1: هنالك ما يُعرف بالمصدر التاريخي، المصدر المادي، المصدر التفسيري واخيرا المصدر الرسمي للقانون. وضح كل منهما وأيا منهما يرتبط بالمشرع عند صياغة النص القانوني وايهما يرتبط بالقاضي عند تطبيقه. س2: عدد من حيث الاولوية المصادر الرسمية للقانون المدني العراقي. س3: عدد من حيث الاولوية المصادر الرسمية لقانون الاحوال الشخصية العراقي. س4: عدد من حيث الأولوية المصادر الرسمية للقانون الدستوري. س5: ما هو المصدر الرسمي لقانون العقوبات. س6: هل يعد العرف أو الدين مصدر من مصادر قانون العقوبات، ناقش ذلك. س7: حدد المعنى الاصطلاحي للتشريع. س8: للتشريع معنى واسع واخر ضيق، ناقش ذلك. س9: ماهي خصائص التشريع. س10: ماهي مزايا التشريع.؟ س11: