كلمة تعريفية بالدراسة
محمد عدنان
علي الزبر
تشترك معاهدات حقوق الانسان مع المعاهدات الدولية الاخرى في ان جميعها
لم تَصُغْ لها الممارسات الدولية أو الدراسات الفقهية مبدأ عاما متفقا عليه لتحديد
نفاذها في حالات النزاعات المسلحة، كما أصبح من الصعب تحديد أي من النزاعات
المسلحة تؤثر على مراكز المعاهدات الدولية، وأي من تلك النزاعات التي لا تؤثر،
ولعل ذلك يعود الى ان مصطلح النزاع المسلح قد أصبح يدل على طائفة متنوعة من
الظروف، ولما كان كل نزاع مسلح ينطوي على ظروف واسعة التباين من حيث حجم النزاع
وطبيعة المعاهدات المعنية، وعلاقة الدول المعنية بالذات، فانه يصعب صياغة قواعد
تسري على الحالات جميعها، وينجم عن ذلك تباين واسع في ممارسة الدول تعاملت معه
المحاكم والادارات السياسية بحذر له ما يبررهُ.
لقد لاحظت لجنة القانون الدولي هذا التباين والغموض فكان من جراء ذلك
ان قامت باعتماد ذلك الموضوع في احدى مشاريعها للسعي نحو تحديد وتوحيد الممارسات
الدولية وازالة الغموض عنها، فكان مشروع آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات.
حيث قامت لجنة القانون الدولي في المشروع المذكور بتعريف مصطلح النزاع
المسلح لتحدد من خلاله النزاع المسلح الذي من شأنه ان يؤثر على مراكز المعاهدات
الدولية، من خلال اعتماد التعريف الذي جاءت به المحكمة الجنائية الدولية
ليوغسلافيا في قضية المدعي العام ضد تاديتش عام 1995، بعد مناقشات مطولة دارت في
لجنة القانون الدولي، وهو ما تناولناه في المبحث الأول من الفصل الأول بعدما
استعرضنا موقف الفقه والنصوص القانونية والقضاء من مفهوم النزاع المسلح، في حين
تناولنا في المبحث الثاني مفهوم معاهدات حقوق الانسان، من خلال تعريفها وتصنيفها
وتحديد طبيعة أحكامها، فكان عنوان الفصل الأول: "مفهوم النزاع المسلح
ومعاهدات حقوق الانسان".
أما بشأن المبدأ العام الذي يحكم نفاذ المعاهدات الدولية أثناء النزاع
المسلح والذي تناولناه في الفصل الثاني بعنوان: "نفاذ معاهدات حقوق الانسان
أثناء النزاع المسلح"، فإن لجنة القانون الدولي قامت باعتماد المبدأ العام الذي جاء به معهد
القانون الدولي عند تناوله موضوع أثر النزاع المسلح على المعاهدات في دورة هلسنكي
عام 1985، وبموجبه فان النزاع المسلح لا يؤدي بحد ذاته الى انهاء أو تعليق
المعاهدات الدولية، وإنما تخضع المعاهدة الدولية لمجموعة اختبارات يتم من خلالها
تحديد نفاذها في ظرف النزاع المسلح. وكان تفصيل ذلك في المبحث الاول من الفصل
الثاني والذي حمل عنوان: "المبدأ العام لنفاذ المعاهدات أثناء النزاع المسلح".
في حين تناولنا في
المبحث الثاني من الفصل المذكور والذي حمل عنوان: "نفاذ معاهدات حقوق الانسان
طبقا لموضوعها"، كل ما يتعلق بتأكيد نفاذ معاهدات حقوق الانسان أثناء
النزاع المسلح، من تقارير وقرارات دولية صادرة عن أجهزة الأمم المتحدة، فضلا عن
السوابق القضائية والدراسات الفقهية والتعليقات التي أوردتها لجنة القانون الدولي
الخاصة بمعاهدات حقوق الانسان، وذلك في المطلب الأول من المبحث المعني،
لنتناول في المطلب الثاني دور قاعدة التخصيص في تحديد نفاذ معاهدات حقوق
الانسان أثناء النزاع المسلح.
ان تأكيد نفاذ معاهدات حقوق الانسان في ظرف النزاع المسلح طبقا
لموضوعها لا يغني عن أحكام هذه المعاهدات ذاتها، والتي في بعض الأحيان هي من تحدد
مصير نفاذها في ذلك الظرف، وفي كل الأحوال فأن عوارض النفاذ التي ترد على
المعاهدات الدولية، بما فيها معاهدات حقوق الانسان ليست تدابير عفوية تلجأ اليها
الدولة دون مراعات شروطها، فشرعية اللجوء الى استخدام القوة، وشروط أخرى اجرائية
وموضوعية تُفرض على ارادة الدولة التي ترغب في اللجوء الى عوارض النفاذ، وهو ما
عالجناه في الفصل الثالث تحت عنوان: "عوارض نفاذ معاهدات حقوق الانسان
أثناء النزاع المسلح وشروطها"، من خلال تناول عوارض نفاذ معاهدات حقوق
الانسان أثناء النزاع المسلح في المبحث الأول، وشروط عوارض النفاذ في المبحث
الثاني.
ان الدافع لاعتماد مشروع آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات، قد جاء
امتثالا لاقتراح الاستاذ المشرف على اعداد هذه الرسالة بأن تكون الدراسة دراسة في
اعمال لجنة القانون الدولي كتجربة علمية قانونية ومنهج في البحث قلما يتم اعتماده
على الرغم من أهميته، لما لأعمال لجنة القانون الدولي من دور كبير في تعزيز البحوث
العلمية القانونية بأهم المواضيع التي تشغل الفقه الدولي وتتطلع لإنجازها الدول
بصيغة معاهدات دولية تعكس الممارسات الدولية (العرف) التي تم تدوينها من قبل لجنة
القانون الدولي وتطوير بعضها، فكان موضوع آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات
واحداً من تلك المواضيع، وبالنظر لسعة الموضوع إذا ما اردنا شمول كافة أنواع
المعاهدات الدولية به، فقد حرصنا على ان تهتم الدراسة بمعاهدة من أكثر المعاهدات
الدولية اثارة للتساؤل والنقاش حول امكانية نفاذها أثناء النزاع المسلح، ألا
وهي معاهدة حقوق الانسان.
غير انه تجدر الاشارة الى ان الاستقراء في أعمال لجنة القانون الدولي
والدراسة في موضوع نفاذ معاهدات حقوق الانسان أثناء النزاع المسلح أظهرت جملة من
الصعوبات التي واجهت الباحث طيلة مدة إعداد البحث ويمكن ذكر بعضٍ منها بشيء من
الايجاز للفائدة العلمية والعملية:
1-
تشعب وتداخل وكثرة التقارير والوثائق المرتبطة بأعمال لجنة
القانون الدولي حول أي مشروع يتم اعتماده من قِبل اللجنة وطيلة السنوات التي يتم
فيها اعداد المشروع المعني، والدراسة في تلك الوثائق والتقارير تتطلب جمعها، واعادة
ترتيبها، ودراستها بشكل مركز والربط عند الدراسة بين مختلف الوثائق والتقارير
الصادرة عن لجنة القانون الدولي حول المشروع المعني وطيلة السنوات التي يتم فيها
اعداد المشروع، وقد تتطلب الدراسة الرجوع لمشاريع أخرى لها صلة بالموضوع قد تحمل
تفصيلا أكثر.
كما ان الدراسة في أحد المشاريع تتطلب تتبع
التطورات التي ترافق اعداد مواضيع المشروع المعني والتعرف على ما إذا كانت تدوينا
أم تطويرا للممارسة الدولية، وأي من المواضيع التي كانت محلا للخلاف والنقاش
المطول في أعمال لجنة القانون الدولي لاسيما في اللجنة السادسة، وأي منها لم يُثر
الخلاف حولها، وأي من المواضيع التي بقيت لجنة القانون الدولي متمسكة بها في
المشروع المعني نظرا لأهميتها و/أو الاتفاق عليها، وأي من المواضيع
التي استبعدتها اللجنة نظرا لقلة أهميتها و/أو لكثرة الخلافات
حولها، وماهي المواضيع الجوهرية في المشروع، وماهي المواضيع المكملة له، وذلك من
شأنه ان يجعل الدراسة الاستقرائية في أعمال لجنة القانون الدولي أكثر صعوبة
واستغراقا للوقت مما لو كانت الدراسة تحليلية أو غيرها من مناهج البحث الأخرى
المعتمدة.
2-
على الرغم من ان اللغة العربية هي اللغة
الرسمية المعتمدة في الأمم المتحدة بالإضافة الى اللغات الرسمية الخمس الأخرى، وتوفر أغلب وثائق وتقارير لجنة القانون
الدولي لاسيما الحديثة منها باللغة العربية، غير انه يتطلب وفي بعض الأحيان الرجوع
الى لغةٍ أُخرى غير العربية في المسائل التي لا تعطي الوثيقة المعتمدة باللغة
العربية وصفا دقيقا للمعنى المقصود، فالترجمة الحرفية للنص دون مراعاة روح النص قد
تكون سببا في بعض الغموض، وهو ما تلمسه الباحث في بعض المسائل عند دراسته في مشروع
آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات.
3-
وفيما يخص الدراسة في موضوع نفاذ معاهدات
الانسان أثناء النزاع المسلح، فأنه قد زاد الأمر تعقيداً وصعوبة تتمثل في:
أ-
حداثة
الموضوع وقلة الكتابات التي تناولت مركز معاهدات حقوق الانسان أثناء النزاع المسلح، وهو ما أكدته لجنة القانون الدولي في مشروع
آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات، وبررت ذلك بقولها أن الكثير من الكتابات ذات
الصلة التي تناولت أثر النزاعات المسلحة كانت سابقة لإبرام معاهدات حقوق الإنسان الدولية،
إضافة الى ان الأدبيات المتخصصة في حقوق الإنسان تميل الى إهمال المشاكل ذات الطابع
التقني فكان من جراء ذلك ان انحصر اعتماد لجنة القانون الدولي في تأكيد نفاذ المعاهدات
الدولية المعنية بحقوق الانسان على قرار معهد القانون الدولي عام 1985 في المادة الرابعة
منه، واعتمادها على ما ورد في مذكرة الامانة العامة المعنية بالمشروع المذكور الصادرة
عام 2005، رغم وجود مواقف دولية زامنت اعداد المشروع المعني تؤكد نفاذ معاهدات حقوق
الانسان اثناء النزاع المسلح، وهي مواقف لم تشر اليها اللجنة، فتطلب ذلك اعتمادها في
هذه الرسالة لتعزيز موقف اللجنة حول نفاذ معاهدات حقوق الانسان أثناء النزاع المسلح،
ومواكبة كل ما هو جديد وله علاقة بالموضوع محل الدراسة واستحداث المعلومات الواردة
في الرسالة حتى قبيل موعد اجراء المناقشة.
ب-
ان تأكيد نفاذ معاهدات حقوق
الانسان أثناء النزاع المسلح، دون تحديد العلاقة ما بين نفاذ أحكامها ونفاذ أحكام القانون
الدولي الانساني، سيؤدي الى عدم اكتمال الدراسة بالشكل الذي يتطلبه الموضوع، فعلى الرغم من تأكيد مجموعة من أعضاء لجنة القانون الدولي وعدد من الدول
على ان يتم اعتماد مادة في مشروع آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات، تتناول مبدأ
قاعدة التخصيص، والذي يساعد في تفسير وحل تناقض وتضارب الأحكام التي قد تؤدي اليها
كل من أحكام معاهدات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني، إلا ان لجنة القانون الدولي
لم تعتمد مثل هكذا مادة في المشروع المعني، مما تتطلب العودة الى مشاريع أخرى للجنة
ودراسات فقهية عالجت هذا الموضوع لاستكمال موضوع نفاذ معاهدات حقوق الانسان أثناء النزاع
المسلح.
ج-
ينبغي التمييز ما بين المركز القانوني للمعاهدات
المعنية بحقوق الانسان أثناء النزاع المسلح وهو محل دراستنا، وبين الحماية التي توفرها تلك المعاهدات
مع مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان الأخرى.
فعلى الرغم من كثرة الوثائق الصادرة عن
الأمم المتحدة بمختلف أجهزتها، ودراسات أخرى تؤكد سريان الحماية التي توفرها أحكام
حقوق الانسان للإنسان أثناء النزاع المسلح، غير انها وفي كثير من الأحيان لا تشير
الى المصدر الذي تستقي منه الحماية قوتها الإلزامية، ما إذا كانت معاهدةً دولية،
أم عرفاً، أم مصدراً أخر من مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان.
ولهذا فقد توخينا الحذر عند الرجوع الى تلك
الوثائق والدراسات، للتعرف ما إذا كان هذا التأكيد مصحوباً بتأكيد أخر حول نفاذ
المعاهدات المعنية بحقوق الانسان أثناء النزاع المسلح، ليُستدل من خلاله على
المركز القانوني للمعاهدات المذكورة، أم ان التأكيد يقتصر على سريان الحماية دون
تحديد المصدر الذي تستقي منه الحماية قوتها الإلزامية.
والله من وراء القصد ...
الخميس الموافق 16/10/ 2014
Comments
Post a Comment
يرجى مشاركة ارائكم ومقترحاتكم