حالة نكوص بعد طول تأمل
دكتوراه قانون جنائي دُولي
من يستقرئ الواقع الدولي ويراقب موازين القوى عقب الحربين العالميتين، يرى ان هيكلية المجتمع الدُولي ومركز الدول فيها تُصاغ وتفرض
من قبل الدُول المنتصرة في الحرب ويسلم بها كافة الدول او معظمها وفي مقدمتها
الدُول الخاسرة، ومنظمة الامم المتحدة أنموذجا حيا لذلك، عبر ميثاقها الذي صُيغت
أحكامه بإتقان تام لتتكفل نصوصه بحماية مصالح ونفوذ الدول المنتصرة عبر منحها
الصفة الدائمة في مجلس الامن وما يرافقه من حق الاعتراض "الفيتو"، فتميزت
بذلك عن بقية الدول على اختلاف مركزها وتأثيرها الدولي، ومقابل ذلك دفعت الدول
الخاسرة (المانيا-اليابان- ايطاليا) وحلفائها ثمن الخسارة غالياً في ظل صعوبة أو
استحالة تعديل ميثاق الامم المتحدة، ليبقى مركزها القانوني الدولي كما هو رغم
تبدل سياساتها الداخلية والخارجية ودورها الايجابي والمؤثر على واقع المجتمع الدولي.
أما الان وتزامنا مع وباء كورنا الذي لطالما في ظله أخذت
الدول تذكر بعضها الاخر بالأزمات الانسانية، وفضل الدولة على الاخرى عند طلب
المعونة الدُولية كما حصل مع ايطاليا عندما قام افرادها وحكوماتهم المحلية بإرسال
رسائل مباشرة الى الشعب الماني ليذكروا الالمان بدعمهم المعنوي والمادي بعد
هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية وكأن بالذاكرة البشرية اخذت تستعين بالتأريخ
رصيدا عند طلب المعونة والمساعدة الانسانية بعيدا عن الالتزامات القانونية
الدُولية، ليذكر بعضها الاخر بالفضل ورد الفضل الانساني، إلا ان ما يميز وباء
كورونا عن الحرب العالمية الثانية ان عهد كورونا لا خاسر ولا منتصر فيه، فالجميع
تحت طائلة الخسارة، وأقلهم خسارة من انطوى على نفسه واغلق حدوده بإحكام، ولازم
مواطنيه منازلهم تحت شعار: "stay home"، و stay home لايمكن تحقيقها فعلا مالم يكن افراد تلك الدولة يتمتعون بضمان اجتماعي وعدالة اجتماعية تسعفهم لتحمل الجلوس فترة طويلة في البيت دون عمل!، وهنا تبرز الدولة القوية بعدالتها الاجتماعية واقتصادها المستقر والوقي، وليس الدولة قوي السلاح والتسلح!
ان الانطواء أو الانغلاق
الدُولي المؤقت وخيبة ظن عدد كبير من الشعوب لاسيما الأكثر تضررا من الوباء واستيائهم
من تدني التعاون الدولي الى ادنى مستوياته واعادة النظر في تقييم بعض العلاقات
الدُولية التي لطالما كانت الانموذج الناجح في خلق مجتمع دُولي متماسك ورؤى
قانونية دُولية طموحة لا يتمناها مجتمعانا العربي حتى في احلامه كما هو الحال
بالنسبة للاتحاد الاوربي الذي ساهم بشكل ملحوظ في تخفيف حدة السيادة ورسم مواقف
دُولية متقاربة ومتضامنة.
فبمجرد ما ان انتشر فيروس كورنا وصُنف على انه وباء
عالمي حتى رُفع الستار عن سطحية التضامن الدُولي وحل محله "الانانية الدُولية
International Selfishness أو أنانية الدول" Selfish states فحل التفكير المحلي محل التفكير الجماعي للدُول وطغت المصلحة الوطنية
محل المصلحة الدُولية رغم ان الالم مشترك والعدو واحد والضحية واحد ألا وهو الجنس
البشري، فانخفض صوت التعاون الدُولي وتعالت أصوات الضحايا من عدو خفي عادل لا يعرف
التمييز ما بين ابناء البشر فكلهم سواسية امامه، فما اعظمه من فايروس حقق ما عجزت
البشرية من تحقيقه طيلة عهودها الغابرة ألا وهي المساواة!
وما تقدم يجعلنا نتساءل عن السبب الرئيسي لهذا التراجع
الدُولي هل كان ذلك بالفعل من اثر فيروس كورونا نتيجة غياب العلاج الصحي له؟ أم ان
العلاقات الدُولية لم تصل الى المستوى الذي يمكن التعويل عليه في الشدائد؟
بتصور كاتب هذه السطور ان السبب الثاني هو الاقرب وانكشف
اكثر مع وجود الفايروس كورونا، فلم يكن لهذا الفيروس سوى اثر كاشف عن ما ساد
العلاقات الدُولية من نكوص نتيجة مصالح دُولية ضيقة التي سبقت هذا الوباء بسنين
عدة وما كان انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوربي الذي سبق الوباء إلا دليل واضح
وصريح على انحسار تلك العلاقة، بعدما تعالت اصوات الرأي العام البريطاني على ضرورة
الانسحاب والاكتفاء بمجتمع وطني يولي المصلحة الوطنية اهتماما اكثر من الالتزامات
الدُولية المثقلة بأعبائها الاقتصادية، ذلك كان على مستوى الاتحاد الاوربي الذي
يشكل المثل الاسمى و الانجع لمجتمع دُولي متماسك ومتعاون!.
أما تجربة الامم المتحدة فإن فشل الدول في ظلها بمعالجة
عشرات القضايا الدُولية العالقة في سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها فكأن
بالذاكرة التاريخية تعيدنا الى لحظات ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، في ظل
عصبة الامم المتحدة حيث التجاسر الصارخ على القانون الدولي وتجاهل التزاماته
وتقاطع المصالح حتى يوشك المجتمع الدُولي للدخول في حرب عالمية ثالثة لولا الاسلحة
النووية التي صار وجودها ضرورة ليشكل ردعا دوليا تحسب له الدول كل الحسبان وتعي
جيدا مخاطره، فالحرب الشاملة تعني انعدام الوجود البشري من على سطح الكرة الارضية
فلا يبقى على الارض إلا اطلالها، ولا رابح فيها إلا الموت والفناء البشري!، فضلا
بيروقراطية الامم المتحدة وقنواتها السلمية وميثاقها المُصاغ على مقاس الدول دائمة
العضوية المتضاربة المصالح، فترى كلما وصل الخلاف الدُولي الى ذروته، لحقه حل
دبلوماسي محدود وبرود واضح في العلاقات الدولية.
ومن الطريف في هذا الصدد أن نشير الى موقف الامين العام
للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس الذي استثمر وباء كورونا ليدعوا الاطراف الغارقة في
النزاعات المسلحة ان تتوقف واخماد فتيل الازمة إكراما للإنسانية من مخاطر وباء كورونا وهو ما حصل
فعلا في عدد من الدول كاليمن، فاستطاع فايروس كورونا ان يحل مشاكل عجزت عنه الدول
العظمى منذ سنين عدة، أو لعل الدول لم تكن راغبة فعلا في حلها، وصار العالم أكثر
سلاما من ذي قبل في عهد كورونا ولذلك علينا ان نفكر جليا في ان نمح كورونا جائزة
النوبل للسلام لتخليص الشعوب المغضوب على امرها من شر المصالح الدُولية الحكومية المتضاربة؟!.
العدالة الجنائية الدُولية الى أين؟
ومن خلال ما تقدم، نتساءل عن مصير العدالة الجنائية
الدولية في ظل هذا الواقع الدُولي المتقدم ذكره؟
ان العدالة الجنائية الدولية شأنها شأن بقية المواضيع
الدُولية الاخرى، لم تصل الى المستوى الذي يمكن القول عنه انه لبى الطموح
الانساني على الاطلاق، فاذا كان القرن العشرين هو قرن الطموح الانساني نحو واقع
دُولي أكثر عدلا وانصافا للمظلومين ومُسائلة لمرتكبي أبشع الجرائم الدُولية بأدوات
ومحاكم دولية لاسيما بعد تجربتي يوغسلافيا وروندا، بعدما كانت قرارات ومواقف مجلس
الامن متماسكة نوعا ما لاسيما في حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، فإن القرن
الواحد والعشرين هو قرن النكوص وخيبة الامل الانسانية، بعدما اثبت تشكيل المحكمة
الجنائية الدُولية عبر نظامها الاساسي بمحدودية خياراتها بسبب قيودها الموضوعية
والاجرائية، فأصبح الخيار الوطني في اقامة العدالة الجنائية الدُولية اكثر نجاعة
وأيسر حلا عبر ادوات ومحاكم وطنية ودور وتعاون دولي محدود، وبتصور الباحث فان
الدور الدولي سيزداد تحديدا ويضيق افقه اكثر من ذي قبل في ظل عهد "الانانية
الدُولية" ولكن ذلك لا يحول دون تعاون الدُول، فالتعاون موجود بلا شك ولكنه
سيكون محدوداً كعادته أو أكثر محدودية من عادته.
فما حصل مع كورونا وما بعدها من انكماش اقتصادي خطير
سيعطي للشعوب دراسا قاسيا يدفعهم الى الانحسار الوطني وغلبة السيادة، والبحث جليا
بالحلول الوطنية دون التعويل كثيرا على المواقف والادوات الدولية، إلا اللهم اذا كان موقف الدول مختلفا تماما وهي تواجه الازمة الاقتصادية القادمة بعد وباء كورونا، فذلك يبقى رهن الايام القادمة وماتخبئه من احداث؟.
وفي الختام: هي فرصة للتذكير في ظل الحديث عن العدالة
الجنائية الدولية للقول ان القضاء الوطني لايزال يمارس الدور الاهم والابرز في
تحقيق تلك العدالة كماً ونوعا وان الحلول الوطنية لا يمكن الاستغناء عنها حتى مع وجود
مجتمع دولي لامركزي مهما تعاظمت وكثرت قراراته الدولية وتماسكت منظومته القانونية،
اذ يبقى الحل الوطني هو الملجأ الاخير لإعطاء تلك القرارات قوتها التنفيذية وبذلك
ندعو مخلصين الى تطوير تلك الادوات الوطنية عبر تشريعات قانونية رصينة وقضاء وطني
مستقل وكفوء وبيئة سياسية امنة يسودها العدل والانصاف وليس المصالح السياسية
الضيقة والشخصية، ويكون الانسان في جميعها المحور الاساس.
Comments
Post a Comment
يرجى مشاركة ارائكم ومقترحاتكم