(الجرائم الاخلاقية أنموذجا)
د. محمد الزبر
قبل الحديث
عن تطبيقات القضاء العراقي واستعانته بأحكام الشريعة الاسلامية ينبغي علينا الحديث
باختصار عن تعريف التفسير وحالاته لنخصص وذلك في الفرع الاول، لنخصص الفرع الثاني
للحديث عن تطبيقات القضاء العراقي.
الفرع الاول
مفهوم التفسير القانوني
أولاً:- تعريف تفسير القانون:-
المقصود
بالتفسير في اللغة هو البيان والوضوح والظهور والسفور- فيقال أسفر الصبح إذا ظهر الصبح وأسفرت الشمس إذا ظهرت وامرأة
سافرة إذا ظهر شعرها وعنقها.
ومن هذا
المنطلق فإن المقصود بتفسير القانون( هو بيان وإيضاح النصوص القانونية حتى تكون
ظاهرة وساطعة كي يسهل تطبيقها والاستناد إليها ودراستها و البحث فيها).
والنصوص
القانونية الواضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا يجوز تأويلها إلى مدلول غير مدلولها
الواضح , في حين أن النصوص القانونية الغير واضحة المعنى والناقصة أو الغامضة
يتعذر تطبيقها ولذلك ينبغي تفسيرها لتحديد معناها.
فالتفسير هو
بيان الحكم القانوني الأمثل الذي يفهم من النص لتطبيقه على الأفراد بواسطة القضاء
أو غيره.
اما بالنسبة
للتفسير الذي نحن في صدد دراسته فهو التفسير القضائي والذي يقوم به القضاة بمقتضى
وظيفتهم, ولذا يرى بعض شراح القانون أن أهم عمل للقضاة هو تفسير نصوص القانون.
يتسم التفسير القضائي للقانون بأنه ذا صبغة
عملية بسبب أن التفسير القضائي لا يكون بمناسبة الفصل في القضايا المنظورة أمام
القضاء حتى تأتي أحكام القضاء متفقة بقدر المستطاع مع الظروف الواقعية للقضايا
التي يتم الفصل فيها وهو يؤدي في كثير من الأحيان إلى أن يخرج القضاء عما قصده
المشرع إذا ما وجد القاضي أن تطبيق القانون بحرفيته على الواقعة المعروضة يخالف
العدالة وضمير القاضي وقناعته, ويكون خروج القاضي على المعنى المقصود للنص
القانوني تحت ستار تفسيره, كما يتسم التفسير القضائي بأنه حر ومستقل لأنه نابع من
القضاء المستقل الذي يعتمد على الحيدة
والنزاهة تحقيقاً للعدل وضماناً لحريات الأفراد وحقوقهم في مواجهة السلطة العامة,
ويجوز للقاضي أن يستأنس في تفسيره للقانون بآراء الفقهاء.
والتفسير
القضائي يكون ملزماً فقط لأطراف الدعوى المرفوعة التي تم الفصل فيها بموجب تفسير
القاضي للقانون ولكن هذا الإلزام لا يكون سارياً بالنسبة للمحاكم الأخرى , بل أن
عدم إلزام التفسير القضائي يصل إلى درجة أن المحكمة ذاتها التي أصدرت تفسيراً لنص
من النصوص على وجه معين لا يجب عليها التزام التفسير ذاته في الدعاوى المماثلة
التي تنظرها فيما بعد ، فيجوز أن تعدل المحكمة عن التفسير السابق إلى تفسير أخر
تراه أقرب إلى الصواب , ولا يغير من ذلك أن تستقر أحكام المحاكم وعلى رأسها محكمة
التمييز على تفسير معين.
على أننا نجد
أن هناك حالة وحيدة للإلزام في التفسير القضائي وهي الحالة التي يتعين فيها على
المحكمة التي ينقض حكمها بالتفسير الذي تصدره محكمة التمييز في الدعوى ذاتها التي
تم نقض الحكم الصادر فيها , فعلى المحكمة التي أصدرت الحكم المنقوض أن تتقيد برأي محكمة
التمييز بعد أن تحيل محكمة التمييز الحكم المنقوض إلى محكمة الموضوع التي تم نقض
حكمها كي تنظره بهيئة أخرى ، وفي هذه الحالة يكون تفسير محكمة التمييز ملزماً
لمحكمة الموضوع التي أصدرت الحكم المنقوض.
وما ذكرناه
ينطبق على مجموعة القوانين اللاتينية, أما في مجموعة القوانين الانجلو أمريكية
(السكسونية) فيطلق فيها على القضاة بحق ( التعبير الحي عن القانون) حيث أن القانون
من صنع القضاة.
ففي هذه
القوانين السكسونية يكون تفسير القواعد القانونية بواسطة القاضي ( في حالة عدم
وجود قواعد مكتوبة, أو ملزماً يكون هذا التفسير ملزماً في المستقبل لأي قاضي في الدرجة ذاتها أو في
درجة أدنى)([1]).
ثانيا: حالات التفسير:
ويقصد بحالات
التفسير الأسباب التي أدت بالقاضي أو المشرع أو الفقيه إلى البحث عن تفسير للقانون
ويمكن الإشارة إلى هذه الحالات على النحو الآتي:-
1.
الخطأ المادي : كما لو تضمن النص القانوني
خطأ لفظي واضح , ولا يستقيم معنى النص إلا بتصحيح ذلك اللفظ أو تلك العبارة – و الواقع
أن هذا الخطأ ليس بحاجة إلى تفسير وإنما تغيير وتصحيح حتى يستقيم معنى النص.
2.
غموض النص القانوني: فقد يكون النص القانوني
غامضاً أو مبهماً إذا كانت عبارته تحتمل أكثر من معنى أو مدلول, وحينئذ على القاضي
أو الفقيه وهو بصدد تفسير النص الاختيار بين المفاهيم المتعددة أو الأخذ بالمفهوم
الأقرب إلى الصواب.
3.
النقص في النص القانوني: يعد النص القانوني
ناقصاً إذا سكت المشرع عن إيراد بعض الألفاظ أو أغفل التعرض لبعض الحالات التي كان
يلزم أن يتعرض لها حتى يستقيم المعنى.
4.
تناقض النصوص القانونية: فقد يحدث تعارض بين
نصيين قانونيين حين يخالف معنى وحكم أحدهما مفهوم وحكم النص الآخر في موضوع واحد,
وفي حالة التعارض بين النصيين ينبغي على القاضي وهو بصدد تفسير النص أما أن يعتبر
أحد النصين عاماً ويطبقه بصفة عامة , ويعتبر النص الأخر خاصاً ويطبقه في حالات
خاصة تكون الأقرب إلى الصواب أو يعتبر النص الجديد ناسخاً للنص القديم المتعارض
معه وملغياً له ([2]).
الفرع
الثاني
التطبيقات
القضائية في تفسير النص الجنائي بالشريعة الاسلامية
لاشك بان النظرية لا يمكن اجلائها
وتأكيدها والتحقق منها الا بعد ادخالها مدخل الممارسة، وذلك من خلال استعراض
التطبيقات القضائية المعنية بموضوعنا محل الدراسة، ونظرا لضيق المقام سيقتصر هذا
المطلب على قرار قضائي يرى الباحث انه اختزل كل النظرية فيه، وهو قرار صدر عام
1962 أي في ظل قانون العقوبات البغدادي والذي نظم ذات الاحكام المعنية بالجرائم
الاخلاقية التي جاء بها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل.
أولا: قرار
الحكم الصادر عن محكمة الجزاء الكبرى لمنطقة الحلة بعدد 437/ ج؟ 1962 وبتأريخ 20/
11/ 1962: احال حاكم تحقيق الحلة المتهم (ج.م)
مكفلا على هذه المحكمة لا جراء محاكمته امامها عن تهمة وفق المادة 232 من قانون
العقوبات البغدادي وفي اليوم المعين حضر المتهم وتبين ان الفعل المسند اليه هو انه
كان قد تزوج من المشتكية (ن.م) منذ ثلاثة اشهر قبل الاخبار بالحادث وانه لم يدخل
بها ولم يزل بكارتها حتى الان بل اخذ يلوط بها بدون رضاها وبتهديدها وان عمرها
يتراوح بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة وبعد ان دونت هويته وجهت التهمة اليه وفق
مادة الاحالة وتليت عليه وافهم بمضمونها فانكرها وافاد انه غير مجرم وبنتيجة
المحاكمة تحصلت الادلة التالية:
1-
شهادة
المشتكية(ن.م) ان المتهم الحاضر زوجها وقد دخل عليها قبل حوالي اربعة اشهر الا انه
لم يزل بكارتها حتى الان ولكنه كان يلوط بها وفعل ذلك معها حوالي عشر مرات ولما
كان المتهم زوجها وانها تعيش معه في دار الزوجية فقد تصالحت معه وتنازلت عن دعواها
ضده وطلبت قبول الصلح الواقع.
2-
شهادة
الشاهدة (س.د) ان المشتكية ابنتها وان المتهم هو زوجها وقد اخبرتها ابنتها ان
زوجها كان يلوط بها دون ان يُواقعها ويزيل بكارتها لذلك فقد سجل الشكوى ضده وبناء
على قيام الزوجية بين المتهم وبين ابنتها
في الحال الحاضر فانهما قد تصالحا مع المتهم وتنازلا عن دعواهما ضده وطلبت
قبول الصلح الواقع.
3-
التقرير
الطبي المرقم 2828 المؤرخ 15/ 10/ 1962 الصادر من اللجنة الطبية في مستشفى الحلة
بالفحص على المشتكية فتبين ما يلي: (أ) الموما اليها ملاط بها ولا يمكن البت في
تاريخ اللواطة. (ب) ظهر انها غير مُزالة البكارة وشكل غشاء البكارة جيري مع وجود
كدمة اسفل فتحة المهبل. (ج) يقدر عمر الفتاة 13- 14 بين ثلاثة عشرة اربعة عشر سنة.
4-
افادة
المتهم ان المشتكية زوجته وقد عقد عليها منذ اربعة اشهر وهي تسكن معه في دار واحدة
الزوجية قائمة بينهما وانه حتى الان لم يدخل بها ولم يزل بكارتها وقد لاط بها
بطريق الخطأ والسهو.
5-
نائب
المدعي العام طلب تجريم المتهم وايقاف تنفيذ العقوبة بالنظر لحصول الصلح وقيام
الزوجية بينهما.
وبناء على المعطيات المتقدمة حكمت
المحكمة على المتهم وفق المادة 235 وايقاف تنفيذ العقوبة مسببة حكمها لقيام
الزوجية وحصول الصلح.
ثانيا: موقف
محكمة التمييز: جاء في حيثيات قرار محكمة التمييز
بعد عرض القضية المعروضة اعلاه: لدى التدقيق والمداولة تبين ان الفعل واقع من
المتهم على زوجته فكان ينبغي التحقيق في الحل والحرمة شرعا
لذلك الفعل الذي اتهم المتهم وهو زوج المشتكية من الجهة ذات الاختصاص
_ ويقصد به المرجع الديني الذي ينتمي اليه المتهم _ ، ومن ثم تقرير مصير
المتهم على ضوء ما يظهر من النتائج وطبقا لما تقتضيه احكام المادة الثالثة من
قانون العقوبات البغدادي، لذا قرر الامتناع عن تصديق قرارات المجرمية والحكم
بإيقاف التنفيذ واصدار القرار بالاتفاق.
بعد ذلك الموقف الذي جاءت به محكمة
التمييز اعيدت الدعوى لمحكمة الموضوع لتعييد النظر فيها على ضوء ما جاء في قرار
محكمة التمييز وعلى ضوء ما تقدم اجرت المحكمة الكبرى لمنطقة الحلة المحاكمة مجددا
اتباعا للقرار المشار اليه واستفتت من الجهة الشرعية التي يقلدها المتهم
المذكور عما اذا كان يحل شرعا للمتهم ان يلوط بزوجته دون
رضاها ام لا يجوز ذلك فوردت الفتوى بجواز ذلك بشرط عدم ايذاء الزوجة ، وعليه فقد
قررت المحكمة وبعد الرجوع للتقرير الطبي والذي يؤكد عدم حصول الايذاء للزوجة، عدم
مسؤولية الزوج من التهمة المسندة اليه.
من خلال ما تقدم نجد الدور الذي تلعبه
الشريعة الاسلامية في تحديد نطاق النص الجنائي الغامض وظني الدلالة ليتحدد من
خلاله نطاق التجريم ومدى مشروعية الفعل من سواه رغم وجود النص الجنائي، تجدر
الاشارة الى الشريعة الاسلامية لا تلعب ذلك الدور الا في النصوص غير قطعية الدلالة
والتي يشوبها الغموض او النقص في الحكم.
Comments
Post a Comment
يرجى مشاركة ارائكم ومقترحاتكم