د. محمد عدنان علي
لم يكن أصل نشأة الإنسان امراً متفقا عليه كما
يتصوره البعض ظنا منهم ان البشرية قد ابتدأت مع خلق الله لأبينا آدم عليه السلام
وانما سبق وجود البشرية خلق آدم بالآلاف السنين، وأكد هذا المعنى القرآن الكريم بقوله
تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ).[البقرة:30]
فسؤال الملائكة وتحفظهم عن خلق ادم خوفا من ان يفسد
في الأرض أو يسفك الدماء تؤكد ان الملائكة قد شهدت هذه الطبيعة من قبل بحياة سبقت
ابينا ادم وهو ما أكده عدد من المفسرين ورسخته الاكتشافات العلمية بأن هنالك بقايا
لجثامين بشرية تعود لأكثر من مليوني سنة في حين يقدر الباحثون ان واقعة هبوط ادم
على الارض تعود الى عشرة آلاف سنة فحسب أو أكثر من ذلك بقليل.
الإنسان أيا كانت نشأته سواء كان على هيئة نبي أو
من النياندرتال كان ويبقى اجتماعيا بطبعه فهو لا يمكن بحكم طبيعته
ان يعيش بمعزل عن قرينه الإنسان، ولما كان الامر كذلك فتراه يدخل مع قرينه الإنسان
بعلاقات متعددة بدءاً من علاقته بزوجته وأولاده وجاره في السكن أو في قطعة الأرض
الزراعية أو غيرها من العلاقات الانسانية وهي بلا شك أي العلاقات الانسانية تتعقد
بتعقد المجتمع وتطوره، بدأ من الحياة البداية وحتى عصر التكنولوجيا والتقدم التقني والتي لانعلم ماذا تخبئ لنا في المستقبل من اكتشافات، فلعلنا مستقبلا نتجول ما بين الكواكب لغرض السياحة، بعدما كان التنقل ما بين المدن أمر ليس بالسهل سابقا.
لم تكن الاجتماعية هي الطبيعة الوحيدة في الانسان وانما يُضاف اليها طبيعة اخرى لا تفترق عنه ألا وهي الانانية، فالإنسان اناني بطبعه يسعى لكي يستأثر على حساب اخيه أو قرينه الانسان ومن الأنانية وضرورة التعايش الإنساني (نتيجة الطبيعة الاجتماعية) ظهر التنازع ما بين البشر الذي تصوره لنا الحياة الانسانية منذ قدمها من وقائع ونزاعات وحروب كانت بدايتها قتل قابيل أخيه هابيل رغم انهما ابناء نبي!، ولكن الطبيعة البشرية واحدة عند جميع البشر! ألا وهي الاستئثار والانانية الدافعة لنشوء التنازع مابين البشر، بين الإنسان وقرينه الانسان، ومن يستقرئ الحروب والنزاعات المسلحة الدولية والداخلية منذ ما كانت الاسلحة بدائية وحتى اليوم حيث الأسلحة ذاتية التحكم، شيكتشف أن التنازع ما بين الانسان والانسان لا ينتهي، ولكن خير التنازع ما كان القانون مرجعه وخير التنازع ما كان القضاء فيصله، لا السلاح أو القوة.
وبذلك مع التنازع وحتى لا يكون الانسان غريق الفوضى
الى ما لانهاية ظهرت الحاجة الى القانون، ومن هنا نشأ القانون!
القانون بنشأته سبق وجود الدولة وإن كانت الأخيرة
هي من ساهمت بأن يكون القانون بالشكل الذي نعرفه اليوم لما فيه من صياغة فنية متخصصة
مجردة وعامة واقترانها بجزاء مادي يحول دون مخالفة القاعدة القانونية لما تمتلكه
الدولة من سلطة إرغام الفرد على إطاعة القانون، ولكن حتى قبل نشأة الدولة كان هناك
قانون يحكم علاقة الناس ولكنه كثيرا ما كان يصطبغ بصبغة دينية، أي أن الناس في ذلك
الوقت ينظرون الى القانون بأنه هو الدين ذاته أو الأخلاق أو كلاهما، فما هو
قانوني هو من وحي الدين ومن قيم الاخلاق، وما هو مخالف للقانون
يخالف الدين والاخلاق معا.
كان البشر قبل ظهور السلطة يحتكمون الى الطبيعة
لفرض الجزاء على من يخالف القانون، فالآلهة بنظرهم ستعاقب الإنسان إذا ما خالف
القانون، من أمثلة ذلك:
·
السارق
أو من هو متهم بالسرقة يكبل بالحبال والصخور ويُرمى في النهر فإذا نجا من الغرق
فيكون بذلك بريئا لان الالاهة ستتدخل لإنقاذه، أما من يغرق فانه يكون قد نال جزائه
العادل لان الالهة تركته يغرق.
·
إذا
اختلف طرفان في مسألة ما فالحاكم ما بينهما هي المبارزة، فتراهم يتبارزان ومن
ينتصر هو صاحب الحق لأن الالهة ساعدته لينتصر!
ولكن مع ظهور الدولة أو السلطة أصبحت تفرض القانون
بالقوة وجزائها بذلك عبر أدواتها القمعية وليس باللجوء الى الطبيعة فترى الجزاء
اختلف وأخذ يتطور بتطور المجتمع والدولة وأدواتها في فرض سلطتها. ذلك كان
على مستوى نشأة القانون.
أما عن نشأة الدولة،
فإن الطبيعة الاجتماعية للإنسان هي من ساهمت في نشأة الدولة، فطبيعته الاجتماعية
هي من دفعته إلى تكوين الاسرة والاسرة الى جانب الاسرة الاخرى والاخرى ظهرت القرية
والقرية الى جانب القرية الاخرى والاخرى ظهرت المدينة والمدينة إلى جانب المدينة
الاخرى والاخرى نشأت الدولة، ومن بعد ذلك ظهر مايُسمى اليوم بالمجتمع الدُولي، بعد حروب دامية راح ضحيتها ملايين الناس كانت خاتمتها الحرب العالمية الثانية والتي بموجبها تشكل ماتُعرف بمنظمة الأمم المتحدة والتي أخذت تلعب دورا مهما وبارزا في تدوين القانون الدولي وتطويره.
كانت الدولة في السابق ليس كما نعرفها اليوم نتيجة
بروز مفهوم الأمة بفضل الثورة الفرنسية وما سبقه من وقائع وأحداث كعقد اتفاقية
وستفاليا لسنة 1648 وما زامنتها ولحقتها من مفاهيم اسست لمفهوم الدولة التي نعرفها
الان.
الدولة كانت كثيرا ما مقترنة بالحاكم، فالحاكم
والدولة مفهومان لذات المعنى وخير من جسد هذا المفهوم ملك فرنسا لويس الرابع عشر عندما
قال (انا الدولة والدولة انا).
إن ظاهرة اقتران الدولة بالحاكم كانت هي الأصل وهو
المفهوم السائد لدى الناس، ولذلك كانت الدول كثيرا ما تُسمى بأسماء الحكام أو
الطبقة الحاكمة، وما يضيف الأمر تعقيداً أن الحاكم كثيرا ما كان يدعي انه الاله
الذي تجب عبادته و طاعاته كما هو حال الفراعنة في مصر، إذ جاء في قوله تعالى في
سورة النازعات: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فقلْ لهُ هلْ لكَ إلى أن تزكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ
إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى
(21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى (24).
أو مفوضا عن الالهة كما هو الحال بالنسبة للعراقيين
في العهود الغابرة، فقد جاء في مقدمة شريعة حمورابي: (لما وضع رب السماء والارض
الذي بيده مصير البلاد، مقاليد الحكم على جميع البشر دعاني الالهة انا حمورابي الأمير الرفيع خادم
الالهة، لنشر العدل في الارض وللقضاء على الطالحين والاشرار ولمنع تعدي
الأقوياء على الضعفاء لكي أشرق شروق الشمس فوق الجبل الاسود وأنير البلاد وأعمل
لخير الشعب).
أو رسولا أو نبيا مرسلا عن السماء كما هو الحال
بالنسبة لنبينا محمد ص ومن قبله داود وسليمان وموسى بعد هاجر وقومه هربا من فرعون.. فيكونوا بذلك
أنبياء أو / و رسل يبلغون رسالة السماء من جانب ويحكمون الناس بما تفرضه السماء من
جانب آخر.
ولكن ظهور الدولة بمفهومها الحديث نتيجة معاهدة
وستفاليا سنة 1648 م و انفصال الدين عن الدولة نتيجة الثورة الفرنسية وما عاصرها
و سبقها ولحقها من ممارسات، أخذ القانون يستقل عن الدين وعن الأخلاق.
إن انفصال القانون عن الدين وعن الأخلاق لا يعني
انفصالهما التام فكثيرا ما يكون الدين مصدرا من مصادره الرسمية أو التاريخية لاسيما الدين
الاسلامي بالنسبة للدول ذات الاغلبية المسلمة، والاخلاق وان أصبح له مفهوم مستقل
عن القانون والدين ولكن لا يمكن للمشرع ان يتجاهله عن صياغة نص قانوني ما.
ومن هنا ظهرت الحاجة لدراسة علاقة القانون بالدين وبالأخلاق،
فجميعها قواعد سلوك إنساني غايتها أن تسمو بالإنسان إلى ما يجب ان يكون عليه
الإنسان بنظر المشرع (في إطار القانون) وبنظر الدين ونظر الاخلاق.
Comments
Post a Comment
يرجى مشاركة ارائكم ومقترحاتكم